اختيار الحاكم من أهم الواجبات والمسئوليات التي تقع على الأمة، ومن المهام العاجلة التي تسبق كل الواجبات، ولا يرخص في التأخير في أدائه لأي سبب من الأسباب، وخير شاهد على ذلك أن الأمة الإسلامية لما أصبحت - فجأة - بدون حاكم لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انشغل الصحابة الكرام بأمر الخلافة عن دفن جسده الكريم لمدة أربعة أيام، ولم تقر لهم عين ولم يهدأ لهم بال حتى اختاروا الصديق خليفة لهم.
فالحاكم للأمة كالروح للجسد فهو قائدها وخادمها، يحرس أرضها ويحفظ أمنها ويحمي أموالها ويصون حقوقها وحرياتها، وهي التي تختاره بالانتخاب الحر المباشر، وتراقب أعماله وتنتقد وتعارض تصرفاته ولها الحق في عزله وإقالته.
واختيار الحاكم فضلا عن كونه واجب على كل مواطن، فهو حق من حقوق الإنسان يمارسه بإرادته المنفردة وبقناعة شخصية، ومن أقوال الفقهاء الصريحة في حق الأفراد في انتخاب رئيس الدولة ما قاله الإمام أبن قدامه الحنبلي في كتابه المغني: ( فمن اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته).
وأساس اختيار الحاكم حرية الرأي والعقيدة وحق الشورى، وهي حقوق بالغ الأهمية والخطورة لا يجوز الانتقاص منها ولا يجوز للفرد أن يتنازل عنها فهي لصيقة بكيانه الفكري والإنساني، فإذا كانت حرية العقيدة قد أطلقت دون قيد فقٌال تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس 99 فلا يجوز حرمان أحد من حريته في اختيار المرشح الذي يراه معبرا عن فكره ومحققا لطموحاته، أو يقبل إكراه أحد على التصويت لمرشح بعينه.
ولقد قرر الإسلام أن من حق الأمة ألا يبرم لها أمر من الأمور الهامة التي تؤثر في حاضرها ومستقبلها إلا بعد الرجوع إليها و أخذ مشورتها، فقال تعالى: "و أمرهم شورى بينهم" الشورى 38 ، فلا شك أن اختيار الحاكم من أهم الأمور التي تؤثر في حاضر الفرد ومستقبله، فلا يجوز إكراهه أو إجباره أو أن يفرض عليه مرشح معين.
لذلك فإن المتفق عليه عند فقهاء الشريعة الإسلامية أن اختيار أهل الحل والعقد هو ترشيح للحاكم واطمئنان على توافر الشروط الشرعية في حقه، ولا تنعقد الخلافة له إلا بعد موافقة الأمة على هذا الترشيح وإعلان رضاها عن الشخص الذي نال أكثر أصوات الناخبين، ولا خلاف في هذا الشأن بين الشريعة والدساتير الوطنية والمواثيق الدولية والنظام الديمقراطي المعاصر، فقد كفل كل منها الحقوق السياسية وعلى رأسها حق انتخاب الحاكم لكل من بلغ من الأفراد الثامنة عشر من عمره .
وإذا كان الفقه الإسلامي والدستوري قد أطلق حرية الأفراد في انتخاب الحاكم، فان بعض التنظيمات السياسية كالأحزاب والجماعات ذات التوجه السياسي - التي ليس لها مرشح للرئاسة - حاولت تضييق هذا الحق وتقييده، بدعوى أن من حق الحزب أو التيار السياسي أن يختار مرشحاً بعينه يرى في برنامجه المعلن ما يتفق ومبادئ الحزب وأهدافه وطموحاته، ومن حقه - كذلك - أن يجمع على هذا المرشح كافة أعضاء الحزب أو يلزمهم باختياره بأن يصدر قرارا يلزم به كافة أعضاء الحزب بانتخاب هذا المرشح، أليس لقيادة الحزب حق الالتزام الحزبي على أعضائه وللجماعة ذات التوجه السياسي حق السمع والطاعة على أفرادها فيما يصدر من قرارات؟.
ولعلي غير مخطئ إذا أجبت على هذا التساؤل بأنه: لا يجوز للأحزاب أو الجماعات السياسية أن تحرم أعضاءها من ممارسة هذا الحق أو أن تفرض عليهم مرشحا بعينه، أو أن تقصر هذا الحق على مجالس إدارتها أو مجالس الشورى لديها- ولو كانوا منتخبين - وأن تصدر قرارا ملزما لكل أفراد الحزب أو الجماعة بالتصويت لصالح مرشح بعينه.
وأدلل على ذلك بأنه من المتفق عليه أن الالتزام الحزبي والطاعة ليست مطلقة دون قيد، وإنما مرهونة بتنفيذ لوائح الحزب ونظامه الأساسي، وكافة القرارات والتعليمات التي صدرت بالطريق الديمقراطي أو من دوائر الشورى والتي تستهدف إدارة الحزب وتحقيق أهدافه.
وأن الحقوق والحريات العامة التي قررها الدستور والقانون واللصيقة بالأفراد ومنها حق اختيار الحاكم لا شك أنها تعلوا على الالتزام الحزبي والطاعة المطلقة، فلا يحق للحزب أن يحرم أعضاءه منها ابتداءً وأن يقصرها على الهيئة التأسيسية له أو مجلسه الأعلى، فهذه الحقوق – كما أسلفنا – بالغة الأهمية والخطورة لا يجوز الانتقاص منها ولا يجوز للفرد أن يتنازل عنها.
وللخروج من هذه الإشكالية المعضلة، والتوفيق بين احترام حقوق وحريات الأعضاء واختيار مرشح بعينه يتفق برنامجه ومبادئ الأحزاب أو الجماعات السياسية وأهدافها وطموحاتها، فللحزب أو الجماعة أن يجري انتخابات داخلية نزيهة لاختيار مرشح أو عدد من المرشحين للرئاسة ويصوت فيها جميع أعضاء الحزب بكافة مستويات عضويتهم ويلتزمون جميعا بالنتيجة التي أسفر عنها الإنتخاب، وهنا يجب تنفيذ قاعدة الالتزام الحزبي ومبدأ السمع والطاعة، ولا يحق لأي فرد أن يصوت لأي مرشح للرياسة سوى ما حاز على الأغلبية، وبهذه الطريقة يكون الحزب حقق أهدافه السياسية ولم ينل من حقوق أفراده .